الأحد، 2 مايو 2010

شروق المخيم ..

gaza3

كنا معتادين كل صباح أن نصحو على رائحة كعك جدتي اللذيذ الممزوج برائحة المخيم عندما تبدأ  الشمس في إرسال أشعتها نصحو لصلاة الفجر ننسل من دفء فراشنا لنتوضأ ونلحق بوالدي إلى المسجد القريب من بيتنا كانت رائحة المخيم هي رائحة بيتنا رائحة مميزة لا أعتقد أن هناك ما يشبهها لعلها رائحة الألم إن كان للألم رائحة تشم! رائحة المخيم هي تلك الرائحة التي تخلفها مجموعة من أقاصيص الذكريات الأليمة مجمعة مع بعضها البعض فأنت تشم رائحة الوطن كله في المخيم تجد أناسا من غزة ومن يافا وحيفا القدس والخليل في مكان واحد الجبل والساحل والبحر المدينة المعتقة وزهر الحنون وحقل الزيتون الوطن بكل تضاريسه ولهجاته وتنوعه في بقعة صغيرة لذا فإن رائحة كل تلك الأماكن تجتمع إذ هم مجتمعون والعجيب أن كل شخص منهم يشبه المكان الذي أتى منه لا أنسى كيف أنني كنت أشاهد قرى الخليل مرتسمة في تضاريس وجه عم إبراهيم الذي كنت أشتري منه قرطاسية المدرسة وكنت أحب كثيرا أن أسمع لخالة أميرة جارتنا التي تكلمنا عن بحر حيفا وجمال ساحلها فأرى أن رائحة البحر ولونه المعتق قد ترك في عينيها آثاره فكانتا مرآة عكست لنا جمال الوطن الذي لازال يسكن أرواحهم ,,,
كانت شمس المخيم تشرق كل يوم كاشفة غطاء الليل عن هذا المكان الوديع المطرز بالألم والمليء بالدفء والحب والشوق والحنين في الوقت ذاته
كنت أفرح كثيرا كلما سبقت محمود ابن الجيران في رهاننا الأبدي من منا يصمد أكثر في مرافقة والده لصلاة الفجر في مسجد القرية وكان الشيخ جمال إمام المسجد على علم مسبق بهذا الرهان ويشجعنا كثيرا واعتاد أن يسمينا المجاهدين الصغيرين لما نجاهد به النوم اللذيذ كل يوم رغم صغر سنينا
وكنت أسمع دندنة جدتي يا بنيي لازلت صغيرا يمكنك أن تصلي في البيت  فابتسم وأذكرها أن طولي قد زاد 4 سنتمترات جديدة هذا الشهر لذا فعليها أن تصدق  أنني قد كبرت حقا
في صباح كل يوم تدب الحياة في شرايين وعروق المخيم فتسمع الضوضاء مع ساعات الفجر الأولى
تبدأ المحلات في البيع والشراء فهذا يصرخ وذاك ينادي وآخر يدندن ويترنم وتفرش المصاطب على طول الطرقات المؤدية للسوق والمدرسة فنمر بالعم والختيار هنا وهناك ونسلم عليهم في أدب وابتسامة ودودة لا تبرح شفاهنا ابدا
هكذا علمتنا أمهاتنا منذ الصغر أن أهل المخيم أهلنا جميعا أن كل خالة من جاراتنا هي أم ثانية لنا وكل شيخ كبير هو أب لنا وكل فتيات المخيم شقيقاتنا التي يجب أن نحافظ عليهن كما نتعاهد كنزا أسطوريا لقد تشاركنا الوجع كما يتقاسم أفراد الأسرة الواحدة الخبز لسد الرمق وجمعتنا أفراح بريئة لا تنسي على حلاوتها فجيعة فقدان الوطن لكنها تسلي الروح بين حين وحين ..
وتعاهدنا عهدا صامتا أبديا على العودة معا كما هجرنا معا
كان أبي نجارا ينحت الخشب بيديه فيصير القطعة البالية إلى شيء أثير ثمين يحول الجماد إلى شيء تدب فيه  روح غريبة من الألفة والجمال كان أبي ماهرا جدا كم أحببت أن أشاهده وهو مستغرق في العمل تزين جبهته السمراء العريضة حبات من العرق اللامعة لتأكد مدى جديته وتركيزه كنت فخورا به وأمسك كل قطعة أصلحها أو صنعها وكأنها كنز ثمين أخشى ضياعه
وكان صوت الشيخ عبدا لباسط عبد الصمد الشجي يعطر أسماعنا كل فجر بآيات من القرآن الكريم مرتلة تجعلني أفكر وأتدبر ويصبح كل ما حولي صامتا ماعدا رجع صوته يكبر ويكبر في نفسي ويغدو كل شيء بطيئا كل شيء بالحركة البطيئة ماعدا انفاسي وآيات القرآن الشجية التي أسمعها وتعلق في أذني "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" ...  "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " ...
أما طريق العودة فكنت أتمشاه وأقوم ببعض الحركات البهلوانية التي تشبه الدبكة على صوت الأناشيد الجهادية ومهرجانات الأقصى والقدس وعالأوف ..
في طابور المدرسة اعتدت ومحمود على أن نمسك الإذاعة المدرسية كنت أفضل كتابة الخواطر والقصص وبعضا من الأبيات الشعرية البسيطة وكان هو يحب الحشد والهتاف والخطب العصماء
ومنذ المدرسة وفي سنيها الأولى تختزل القضية الفلطسينية وتستطيع أن تكتشف بوضوح أن مايجري من مأساة على الطاولات المستديرة الكبرى والقاعات الفخمة التي تضم القمم ومن ينظمها وكل تلك المهازل التي يقلب لها الشعب العربي كفيه ويهز رأسه أسفا إنما هي تبدأ على طاولة أخرى صغيرة وعتيقة هي طاولة الدراسة لطلاب المخيمات ..
فمن هنا نرى بوضوح النموذج ذاته ذاك الذي تغلب عليه حقد أسود ونقمة شديدة تجاه كل شيء فشوهت نفسه وأفقدته الأمل في كل شيء حتى أمل النصر الذي وعده إياه ربه فانقلب على عقبيه وأصبحت المصلحة مصلحته هو فقط هي التي يحيا لأجلها ويكون مستعدا لبيع نفسه وكل شيء من أجلها هذا الصنف هو الذي يبسط القضية من قضية تحرير إلى رموز وتماثيل لأشخاص فتغدو الحرية التي نقاتل من أجلها مجرد هتافات جوفاء كصراع الحلبات الرومانية القديم :هيه هيه عاش الملك مات الملك ويتحول الفصيل إلى شيء مقدس تماما كتمثال بوذا يسجد الناس له متناسين أن ما جعل بوذا إياه في يوم من الأيام مختلفا وفريدا المنهج والفكر الذي دعا إليه وجعله يتمرد على كل الظلم الذي كان منتشرا حوله حتى إذا مات جاء البشر لينسفوا جهده ويهيلوا  التراب من جديد على كل ما بثه من قيم ومثل وصنعوا منه صنما جامدا طالما تمرد عليه صنما يمثل الظلم والجهل وعبدوه ..
آه ما دخل كل هذا بفلسطين .. نعم هو ذاك .. هناك من يمجد فصيل معين ويعتقد أن القضية هي قضية داحس والغبراء فإن خسرت الشبيبة في إنتخابات الطلبة في الجامعة فهذا يعني أنها خسارة جديدة في المعركة مع الإعداء الأزليين الكتلة "بلغتهم" ونسوا أن القضية لا هي داحس ولا غبراء وأن الوطن أكبر من بوذا "الفصيل" الذي يعبدون وأن الله أكبر من كل شيء سبحانه وهو الذي أمرنا بالوحدة إن نحن أردنا النصر من جديد .. وأن الحق أحق أن يتبع
هذه التأملات كانت تجعل معلمي الأستاذ حسن يوجهني على إنفراد من وقت لآخر
أنت طالب متفوق يا أحمد لكن سرحانك هذا يقلقني كثيرا.. من حين لآخر أراك خارج الشرح بل خارج الصف بأسره إلى أين يأخذك تفكيرك يا بني .. يجب عليك التركيز في دروسك وإلا أثر ذلك على مستواك .. وهذا ما لاأرضاه .. فأنا واثق من نبوغك  ..
وكانت وجنتي تحمر كلما كلمني الأستاذ حسن كنت أشعر بالفخر لأنه يثق بي ولكنني كنت أخجل من أن أصارحه بما يدور في عقلي الصغير من أفكار ..

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

Al Salam Alaikum

great imagination for the camping and the life in it.. for a writer feels that did not saw the real things there..

غير معرف يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لا أعلم إن كان هذا مدح أم ذم :)
الحقيقة أنا لم أشاهد المخيم حقيقة لكنني قرأت عنه وأعلم عن قسوته وأعلم المأساة التي تعيش بين جنبيه لكني متأكدى أيضا أنه إلى جانب المأساة هناك شروق كهذا الشروق ..
شروق أرواح من يحملهم المخيم بين جنباته أرواحهم اليانعة التي تصير الليمون عسلا التي ترى الجانب الإيجابي في كل شيء لذلك هم أقوياء ولا شك عندي أن الكثير من أهل المخيمت هم أكثر سعادة من سكان القصور الفارهة ..
لعلي أردت تغيير الصورة النمطية عن الحياة في المخيم
بورك فيكم

واجب القراءة قفزة عباس في الهواء ستكلف فلسطين والحقوق الفلسطينية باهضا!

Study
View more documents from Bahrainpath