الخميس، 6 نوفمبر 2008

أزاهير مسك


ذلك الأبيض الجميل الذي ترتديه الأرض كأنه كنز من كنوز ألف ليلة وليلة نسيه أصحابه وتركوه على هذه البقعة من أرض الشاشان حبات الثلج تلمع وتبرق وتتلون في إنعكاسة أشعة الشمس عليهاورائحة المسك تملأ المكان بشكل عجيب قرب جذع شجرة مقطوع بالأمس دارت هنا معركة جديدة ...
كان صقور القوقاز سبعون أو يزيدون بقليل لكن صوت الواحد منهم يزهق أرواح ألف من الروس خاصة إذا كان ذك الصوت مجلجلا : الله أكبر ... الله أكبر
صلوا الفجر في جماعة وكان أحدهم هو الأول أيقظ الجميع وهيء مكان الصلاة وبدا باسم الثغر مبسمه ذكرهم بالقمر الذي ظل يرمقهم طوال الليل في حنو ..
في تلك الليلية بالذات كان القمر أكثر حنانا وإشعاعا ...
عبدالحميد : تبدو نشطا جدا مابالك؟
مراد : أشعر براحة عجيبة يبدو أني سأحصد رأس الكثير من الروس اليوم
عبدالحميد : انتبه لرأسك أخشى أن لا يحصد شيء سواها ! مازحا
مراد : تخشى؟! أوليس هذا مانريد يا صاحبي ... وقد ارتفع حاجبه وزادت ابتسامته
عبدالحميد : آمين ..
سمع صوت الإمام وهو يعلنها دافئة الله أكبر فتحول الزمهرير الذي جمد أطرافهم إلى دفء وسكينة في معية الله سبحانه وتعالى وشعروا أن قلوبهم تفيض حبا لله ورغبه في التضحية في سبيله لم يعلم الرفاق السبعون والصفوف التي وقف نصفها للصلاة صلاة الحرب أن مراد سهر الليل كله كان يدور على نقاط الثغور يسلم على رفاقه ثم ينسل في هدوء ليصلي تحت شجرة قريبة ظل ساجدا ساعات طويلة تلك الليلة حتى ظنه البعض امتدادا للشجرة نفسها بللت دموعة أرض الشاشان الثائرة فزادت من سخونتها وخلفت ورائها أزاهير من مسك ..
كان يدعو الله مخلصا بصوت هامس يخشى أن يسمعه أحد يارب .. شوقا للقائك شوقا للقائك اللهم مكني من الدفاع عن دينك ومكني من الدفاع عن المسلمين وحماية إخوني رباه ... شوقا للقائك ...
عند أذان الفجر انتبه مراد أنه قضى الليل كله على هذه الحال أكمل دعائه بسرعة وقلبه ينبض بشدة شعر أن الدنيا كلها تتجمع بين راحتيه شعر أنه قوي شعر أنه سعيد يطير بجناحين من الفرحة والرضا شكر الله في سره كثيرا ذهب لإيقاظ إخوانه في حنو حضر لهم الماء الساخن وهيء مكان الصلاة واحتضن الكثيرين ومازح آخرين ..
بعد الصلاة جلس مع شامل وأحمد يراقبان الشمس وهي تبسط أشعتها على أرضهم الجميلة أشجار الشاشان باسقة طويلة كأنها تعلن وحدانية الله الواحد الأحد وترفض الإلحاد الذي حاول الروس فرضه عليها ..
كم أحب هذه الأرض ... قالها شامل
نعم إن لها سحرا خاصا إنها أرض مؤمنة لا تروض وكلما حاول الإلحاد كسر إبائها ارتفعت قامتها أكثر وأكثر ومرغت كبريائه في الوحل ..أجابه مراد
ومع تنفس خيوط الشمس في كل مكان ومعانقتها للسحب في توليفة من الألوان الرائعة زينت بها السماء ارتفع صقر شامخ من الصقور القوقازية البنية اللون في السماء وسمع صوته كصفارة إنذار قصيرة
جفل أحمد .. أنظروا إلى الصقر يتجه نحو الجبال ..
شامل مازحا : هو أنشط منك .. أنظر إليه يسابق الشمس في إشراقة كل يوم جديد
مراد : طبعا أليس قوقازيا أصيلا؟ هل لاحظتم أنه يزيد من تحليقه لكنه لا يهبط فقط يتجه للأعلى ويبسط جناحيه في سمو و...
أحمد مقاطعا : إنتظر يا مراد .. ماذا قلت يا شامل أوتظن الصقر أنشط مني حقا يبدو أنك لا تعلم أن أحمد عندما كان صغيرا كان يسبق صقرك كل يوم وهذا الصقر الذي تدافع عنه اعتاد أن ينظر إليه بحسد ويتمنى أن يهزمه يوما !
شامل : تعالوا يا جماعة واسمعوا الإمام أحمد يدعي أن الصقر يحسده هل جننت يا أخي؟! سأسقط على الأرض من الضحك يا سبحان الله قبل أن تضحك اسمعني أولا ..
.سأسمع سأمعك حتى لو هجم علينا الروس الآن اسمعك أولا ثم استشهد إذا أردت
أخذ أحمد نفسا وضاقت عينه وهو يرمق الأفق ويقول :عندما سمعت صوته تذكرت تلك الأيام.. كنت صغيرا في قرية غورني حينها كنت أرعى الغنم مع جدي في الشتاء كان يوقظني قبل الفجر كل يوم لأصلي معه
شامل مقاطعا : هل ستقص علينا حكايات الطفولة حتى تنسينا حسد الصقر لك
أحمد : انتظر سأكمل لك يا ثقيل
شامل : تفضل ...
وعندما يأتي الصيف كنت أصعد الجبل لأنضم إلى حلقة الإمام حمزة حيث يحفظنا القرآن وكانت قريتي في الوداي والحلقة في أعلى الجبل فتراني بعد صلاة الفجر على ظهر بغلة جدي ويزدوني بقليل من الطعام فأنطلق مباشرة حتى أصل على الوقت لأن الإمام حمزة يحب الإلتزام بالوقت وهكذا كنت أطوي الجبل فجر كل يوم وأتأمل هذا المنظر الجميل كما تشاهدونه الآن خضرة الشجر تزيدني اصرارا على الوصول وحمرة الورد تدخل الصبر على روحي وعندما أصل إلى القمة يكون الصقر للتو في إثري ويرمقني بنظرة تحدي واحترام!
شامل : يا الله واحترام كذلك ، لابد أنه كان يرفع لك سلام تعظيم كذلك ضحك الثلاثة بمرح وتعانق أحمد وشامل
مراد : أطلنا الكلام اليوم لقد ارتفعت الشمس هيا بنا لصلاة الضحى لدينا عمل شاق فاليوم معركة مرتقبة كما قال القائد ..
وفي طريق العودة كان الصمت هو السيد و انشغل الثلاثة في تسبيح اللهوظل أحمد في سره يراجع القرآن الذي حفظه في حلقة إمامه حمزة ويدعو له وتذكر التجاعيد العتيقة في وجه جده حين يودعه ويوصيه فجر كل يوم : أحمد يا بني هذا القرآن الذي تحفظ أمانة عظيمة حتى نحافظ على وطننا وأرضنا من الروس يجب أن نتعاهده ونحافظ عليه فيحفظ الله لنا إيماننا .. رضى الله يا ولدي اجعله غايتك لقد استشهد أبوك والرصاص في صدره ولم يدر ظهره يوما للعدو فارفع رأسك
ارفع رأسك رددها أحمد كأنه يحاول ألا ينسىورفع جبينه بحركة لا إرادية ...
كانت الأرض في طريق العودة في غاية الجمال وكأن شروق الشمس قد كشف جمالها الأسطوري الذي كان متخفيا تحت عباءة الليل .. تحت النور ترى نباتات خضراء يانعة تورق هنا وهناك وتحاول أن تكافح الثلج وتجد لها مكانا في هذه الحياة كان قلب مراد يحتضن كل ما يراه ويرسل أشواقا كانت عيناه تدعو لوطنه وإخوانه أن يحفظهم الله ..أشرق محياه من جديد عندما شاهد إخوانه يتهيئون للتدريب بعد أن فرغوا من صلاة الضحى
وأنضم الرفاق الثلاثة للصفوف بسرعة وبدؤا عملهم....نظر كل شيء في هذه الأرض بفخر لهذه الثلة المؤمنة مئة من الذين آمنوا أذاوقوا ألفا من الروس ألوان العذاب كان الروس يرتعدون ولم يكن السبب عواصف الشتاء التي تشتهر بها أرض الشاشان لكنه الخوف والهلع الذي يملأ قلوبهم .. جرت عدة معارك ماضية أذهلتهمكان الرصاص لا يكاد يلحق بهم وهم يهربون من الأواريين البواسل لذلك استعد عشرة آلاف من الروس الصفر لهذا اليوم أرادوها معركة حاسمة
لم يتوقف الجنرال الروسي عن صب اللعنات على القيادة التي أرسلته إلى هذا الجحيم هو يحقد عليهم جميعا لماذا يموت هو هنا بينما يتمتعون هم بالدفء هو يعلم تماما أنهم يتاجرون باسم روسيا ويتاجرون كي تبقى الحرب مستعرة في الشيشان بقاء الحرب يعني استمرار الأموال التي تنهب من خزينة الدولة ويذهب نصفها في جيوبهم فضلا عن الأموا ل التي يحصلون عليها نظير صفقات الخيانة وبيع الأسلحة للأواريين الذين تمكنت مخابراتهم من خرق جيوش الروس بسهولة
خونة صرخ الجنرال في حنق وضرب بقبضته المنضدة التي أمامه لدرجة أفزعت العقيد ميندوف!
هل ستبقى هنا مدة طويلة صب الجنرال جام غضبه على العقيد.............ياأبله هل أكلم نفسي متى يخلصني الأواريين منك اغرب عن وجهي اذهب وتفقد الجنود وتأكد من وصول شحنة السلاح الجديدة !
ابتلع العقيد ريقه وظل ثواني دون حراك وهو يتخيل أنه فقد رأسه حقا على يد الأواريين تجمد الدم في عروقه ولم يتحرك إلا بعد أن جاءته ضربة من عصا الجنرالتحرك يا جذع الشجرة !حاضر سيدي !
انقسم صقور القوقاز في تدريبهم السابق إلى مجموعات وكان تقسيم المجموعات حسب حفظهم للقرآن الكريم فمجموعة الموت كانت من حفظة القرآن الكريم كاملا وهي التي توكل لها المهام المستحيلة عادة وكان أحمد عضوا فيهاوهناك من يحفظ ما بين الجزء والعشرة أجزاء وهناك ما بين العشرة والعشرين كل في مجموعة وفي كل الكتائب هناك هجوم وميمنة وميسرة ودفاع وفرقة قص للآثار
وشمل التدريب أمورا عدة تخفي هجمات وهمية كر وفر مصيدة للعدوفي كل يوم يشرح لهم القائد مسعود خطة جديدة يعجبون كيف توصل إليها وفي كل يوم يزيد إعجابهم به أكثرهمس عبدالحميد لمراد : قائدنا ليس من البشر ! من أين يأتي بخططه لو قضيت عمري كله في التفكير في خطة كهذه لن أستطيع
رد عليه مراد : هس وما أدراك أنت إن للقائد عقلا كبيرا أكبر مني ومنك مجتمعين أضحكت عبدالحميد الفكرة لو كانت العقول بالأحجام لكان حمدي أعقلنا فهو الأضخم شعر الإثنان بالفخر والإمتنان للقائد وحمدا الله الذي ألهمه هذه الخطط كانت خطة القائد تتمحور حول الغابة

كانت خطة القائد تتلخص في حصر العشرة آلاف روسي في مصيدة الغابة الأشجار في غابات الشيشان طويلة وضخمة وشائكة لدرجة يمكنها حمل أكثر من مقاتل أواري عليها يبدأ القتال بهجوم مباغت من فرقة الكر والفر هجوم سريع ومن ثم انسحاب إلى الغابة وهناك يبدأ فصل جديد من الخطة سيذوق الروس الجحيم في هذه الغابة ولن يتعرفوا أبدا من أين وكيف تأتيهم الرصاصات تم تقسيم الجند حسب رؤية القائد للمعركة وقدرات كل منهم بحيث أن كل مجاهد أواري سيكون مسؤلا عن إحدى الأشجار ويستقر فوقها وأحيانا يكون هناك مجاهدين متجاورينكانت رائحة الأوراق في الغابة تنذر أن هناك شيء قريب هنا سيحدث!
استمع السبعون مقاتل أواري لتعليمات قائدهم وهو يشرح تفاصيل العملية وكأن الطير على رؤوسهم وشاهدوه بانتباه شديد وهو يرسم بعض مشاهد المعركة بعصا طويلة في يده على التراب الناعم وعندما انتهى القائد مسعود من الشرح لتوه كان مندوب فرقة التقصي قد وصل وصدره يعلو ويهبط بانفعال من الركض وقف على بعد عدة أمتار وكأنه ينتظر القائد أن يأذن له بالحديث
تعال يا بني اجلس وارتح قليلا لقد مشيت كثيرا
أنا بخير يا إمام هات ما عندك إذن
لقد صدق حدسك يا إمام إمدادات السلاح إختارت الطريق الجبلي الأصعب كي تصل إلى الروس وقد ظنوا أنهم بهذه الطريقة يموهون عليناأحسنت يا بني ، تبدو شاحبا اشرب بعض الماء
حفظ الله الإمام ، لقد تبينا عددهم وحصلنا على المعلومات التي أردت
أطرق الإمام رأسه فترة وانعقد جاجباه الطويلان معلنينن انهماكه في تفكير عميق
إبراهيم
حاضر ياإمام
اذهب مع عبدالحميد وخذوا معكم فرقة خاصة أئتونا بهذا السلاح أو امنعوا وصوله بأي طريقة انطلق المندوب من فوره إلى عبدالحميد الذي شعر بالفخر لثقة الإمام به وانطلق على رأس مجموعته لتنفيذ هذه المهمة الصعبة
حفظكم الله هتف القائد مسعود كان كل ذلك والوقت لايزال عصرا وبدأ الأواريين في تنفيذ خطة قائدهم وأخذ مواقعهم على الأشجار في الغابة ..ارتفع حاجبا مراد وتهلل وجهه وهو يشاهد القادم أهلا وسهلا بالشخص الوحيد في هذا العالم الذي يكن له الصقر كل الحسد والإحترام!
ضحك أحمد في مرح : أرأيت ها نحن نتجاور من جديد المهمة صعبة هذه المرة يا شيخ أحمد
الله الكريم سيمدنا بعونه ألم تسمع صباح اليوم حفيف الأشجار وخرير الماء لقد كان كل شيء في هذه الأرض يجثو ويبتهل لله القهار الجبار أن ينصر عباده ويزيل الظلم والظلام
أولا الصقر والآن الماء والأشجار ما أنت يا شيخ أحمد؟ شيخ أم شاعر أم فيلسوف؟
أنا كلهم مجتمعين ..قلب المؤمن يا بني يرى بنور الإيمان مشاعر المخلوقات الأخرى ويحس بهاأصبحت ابنك الآن .. لا إله إلا الله ..
شعر مراد في سره أنه محظوظ لأن الشيخ أحمد هو جاره في المعركةلا وقت لحديثك الآن هيا بنا نحتاج لكمية كبيرة من الأوراق والحشائش لنموه وجودناوانهمكا في العمل من جديدفي تلك الأثناء كان عبدالحميد وفرقته قد تمكنوا من تحقيق انتصار كبير في الطريق الجبلي حصل المجاهدون على كل إمدادات السلاح وأسروا 5 من الروس وتوزع الباقين بين هارب وقتيل في المعركة ..
وصلت الأنباء إلى الجنرال سيرجي في مقر القيادة الروسية فاستشاط غضبا وأخذ يرغي ويزبد ويتوعد لم يسلم أحد من سيل الشتائم التي أطلقها حتى الرئيس الروسي نفسه!
وشعر العقيد ميندوف بالحرج الشديد لتحمله وحده كل هذه اللعنات حتى تهدأ فورة الجنرالكانت الضربة بفقدان شحنة السلاح قوية أكبر من قدرة الجنرال على التحمل فبعد كل ذلك المسلسل الطويل من المفاجآت على هذه الأرض تأتي هذه الأخيرة قاصمة خاصة وأن الجيش على وشك الدخول في معركة فاصلة مع الأواريين!
لقد ظن أنه قادم في نزهة لن يلبث أن يعود منها ورأسه مرفوعة وصدره مليئ بالنياشين والأوسمة والأهم من كل ذلك ستكون جيبه ممتلئة بما يهفو له قلبه من المال والذهب! إن كل شيء يتبخر هنا إن كل ما يخطط له يصبح مجرد سراب هذه الأرض أرض جن وليست للبشر!وضع الجنرال كلتا يديه على وجهه وشعر العقيد ميندوف أن اليوم سيحمل المزيد من المصائب
هل نؤجل الهجوم الكبير يا سيدي!لا تسمعني صوتك مرة أخرى ، بل سنهجم 10 آلاف مقاتل روسي لن يعدموا الوسيلة للقضاء على تلك الغربان العنيدة كم عددهم مئة مئتان ستكون نهايتهم على أيدينا اليوم اذهب واجمع الجند
ردد العقيد في سره :أخشى أنها لست نهاية أي أحد سوانا ثم صرخ بأعلى صوته حاضر سيدي!
انتهى أحمد من الحفر على الشجرة الخاصة بمراد كان يحني ظهره منذ نصف ساعة تقريبا وينحت مستخدما تلك الآلة الحادة في قبضته اليمنى ورائحة الخشب تنتشر مع كل خط جديد يرسمه مسح حبة عرق عن جبينه تسللت رغم البرد خلسة وهتف
ها ما رأيك الآن؟!
جميلة يا شيخ أحمد لقد نحت اسمي هنا باللغة العربية لكن لماذا هذا الشكلБ
ألا تعلم إنه القمر باللغة الشيشانية القديمة؟
ولماذا قمر ؟قلبك كالقمر يا مراد يا أخي أنا لا أتحمل هذا الكلام ما كل هذه الرقة واللطف يا شيخ أحمد
إن لهذه الشجرة اليوم شأنا عظيما سأذكرك
طيب يا فيلسوفي العزيز ، هل يمكن أن أستأذنك بتنحية الفلسفة جانبا الآن واسمعنا بضع آيات من القرآن الحبيب إلى قلوبنا لعلها ترق وتذرف الدموع من خشية الله أحتاج إلى شحنة كبيرة كي احمل على أعداء الله حملا شديدا اليومبكل سرور وبدأ الشيخ أحمد في التلاوة قرأ سورة يس ورددت معه أوراق الشجر وحبات التراب في خشوعكان الصمت سيد الموقف ولا تكاد تسمع شيئا غير صوت الريح وهمهمات بسيطة من القائد مسعود يوجه المجاهدين ويوصيهم وكانت الغابة التي تشتعل حماسا قبل قليل هادئة كالشبح الآن..
كان القائد مسعود يعلم تماما أن الجنرال تعيس الحظ سيأتي من ذلك الطريق فاستعد جيدا ووزع فرقته على نحو يكون عنصر المفاجأة فيه قاتلا للروس في البضع دقائق الأولى المباغتة لن يتبين فيها المحتل فارق العدد هذه المفاجأة المفزعة تعمل عملها في رؤوس الروس وتمنى القائد أن تكون تلك الرؤوس في الهجوم الأول فوق الألف! ولم يغب عن بال الإمام توظيف وسائل مساعدة فاستخدم حجر الجرانيت المدبب وأخشاب الأشجار الحادة وصنع منها سكاكين وخناجر تعمل عملها في المعركة فإن لم تقتل فهي تؤخر وتعطل وتؤلم كما وصنع حرابا طويلة تعطب الآلات والمدافع أما أحمد ومراد فكانا ضمن مجموعة حماية ظهر القائد
وفي تلك الأثناء كان عبدالحميد يحث السير بقافلة السلاح ويحاول أن يستكشف طرقا مختصرة تسرع به الخطى وتختصر المسافات كان يريد أن يطوي الأرض ليصل إلى إخوانه قبل أن تنتهي المعركة هذا المدد سيساعدهم كثيرا ورغم أن المعركة التي خاضها مع الروس لم تكن سهلة إلا أنهم لم يرتاحوا أبدا ولم يتوقفوا حتى لتناول قليل من الزاد فكان الهدف غابة بيش حيث المعركة وكان الروس الأسرى الخمسة بركبون الخيول وكأنهم جزء من الفرقة بينما اضطر إثنان من الأواريين أن يمتطوا ظهر فرس واحدة حتى يتمكن الأسرى من الركوب جميعا! وفهم الروس ذلك رغم جهلهم باللغة الشيشانيةهؤلاء القوم غريبون !
همس أحدهم لو كان الوضع معكوسا لعلقناهم بالحبال في ظهور الخيل وقطعنا بهم كل تلك المسافة على هذه الحاليا رجل هذا إن لم يقطعهم الجنرال إربا من فوره!إنظر إلى محمود هذا أو أيا كان اسمه الذي يأتينا بالطعام اقطع يدي لأعرف لماذا يبتسم لنا هذه الإبتسامة العذبة كل مرةإنهم لا يكرهوننا أو هكذا يبدولا تكن مجنونا إذن لماذا قتل رفاقك في المعركة من فرط المحبةلأننا كنا نود قتلهمأرى أنك بدأت تميل لهمصمت ..في الحقيقة كان الرجل قد بدأ فعلا يميل إلى هؤلاء القوم الطيبين أو على الأقل يكن لهم كل الإحترامومع أول ساعة بعد العشاء كان عبدالحميد قد وصل إلى أطراف الغابة صوت الرصاص يصم الأذنين وأنوار المدافع تحيل الظلام إلى نهارخفق قلبه بشدة ماذا جرى لإخوانه يا ترى؟أرخى سمعه نعم أصوات الكلاشنكوف تشير إلى أنهم بخير فهي لازالت قوية ثابتة تغرد ترانيم التضحية الفداءسجد شكرا لله

بدأ الأمر في غابة بيش على النحو التالي

فبعد لحظات من السكون قاسية كالشبح باردة كصقيع الثلج الأبيض بدأ القتال فجأة مراد كان يراقب المعركة من على شجرته قضى الليالي الماضية وهو يصنع أفخاخ من الحشائش الممتدة بحيث تلتف حول الجيش الروسي كالسوار على المعصم ميزة الحشائش هذه أنها قابلة للإشتعال حتى في أقسى درجات البرودة أبتكر الشاشان مادة سريعة الإشتعال يمكنها أن تخترق أنفاق معينة مليئة بهذا النوع من الحشائش لتصل بسرعة كبيرة إلى حيث الهدف وتحرق كل تلك المنطقة التي أعدت من قبل لهذا السيناريو وهذه كانت مهمة مراد طوال الأيام الماضية مع الشيخ أحمد لذلك وجوده كان مهما فوق تلك الشجرة حيث يرقب المعركة عن بعد ويبدأ في توجيه تلك الحفر والأنفاق أيها يجب أن يشتعل وأيها ينتظر قليلا وكانت جسور اللهب هذه من أقوى وسائل الهجوم التي بثت الرعب في قلوب جيش الصفر !
القائد مسعود هو الذي أعطى هذه المهمة الصعبة له وهو يريد أن يكون أهلا لها تمتم في سره : يا الله ساعدني لأكون شيئا مشرفا للإسلام اليوم
سمع صوت الشيخ أحمد وهو يقول : آمين
جفل مراد : ماذا يا فتى لماذا تقول آمين
لا شيء!
شعر مراد أنه لن يفهم الشيخ أحمد أبدا حتى وهم في أحلك ساعات المعركة
المعركة تحسم بسرعة صيحات الله أكبر تعمل عملها جسور من اللهب تحرق معدات الروس التي تشتعل بعدها ذاتيا لإحتوائها على البارود والقنابل والخسائر كبيرة وإحساس بالإطمئنان هو الذي ينعش فلوب الأواريين أكثر وأكثر فرقة عبدالحميد التحمت مع الصفوف فور وصولها وكان من البطولة والإستبسال بحيث أراد أن بعوض كل دقيقة فاتته من المعركة فكان كل واحد من فرقته يقاتل بقوة عشرة أبهرت القائد مسعود نفسه بارك الله فيكم وأيدكم بجند من عنده هتف القائد مسعودوعيناه تمتلئ فخرا بهم
أما الروس فشعور بالهلع يتضاعف في أعماقهم ويكشف لهم خواء أرواحهم وقلوبهم التي ملؤوها بالكره وتاهت بعيدا عن الله فيزداد تخبطهم حتى أن أسلحتهم قتلت منهم أكثر من أسلحة الأواريين !

سلط الجنرال نظره نحو المنطقة القريبة من شجرة مراد وصاح في وجه مساعده من هنا تأتي ألسنة اللهب يجب أن نقضي على هذه الشجرة
اصفر وجه العقيد : هل هي من الجن يا جنرال؟!
كيف ننتصر وعندي مساعد بمثل عقلك وحكمتك؟! نعم هم الشيشانيون الجن؟! يا أبله لا بد أن فرقة منهم تتمركز هناك
نعم سيدي
اذهب واقض عليهم مهما كلف الأمر !!
وقرب المعركة سمع صوت الأسير الروسي وهو يصرخ : أيها الجندي المحترم أيها الجندي أتوسل إليك أن تأتي إلي لحظة ..

صمت وأصوات قتال وسيوف وإنفجارات ولا مجيب

كان الأسرى الروس ينتظرون إنتهاء المعركة في مكان حصين وآمن تم الإحتفاظ بهم في تجويف كهفي أسفل أحد التلال المطلة على ساحة القتال ولم يتوقف أحدهم عن الصراخ وكان اثنان من الجنود الشيشان يحرسون الأسرى قرب مدخل التجويف وينشغلان بمراقبة المعركة والدعاء وقراءة القرآن ..

وسمع صوته مرة أخرى : أيها الجندي المحترم أرجوك أن تسمعني لحظة
يحيى منشغل بتلاوة سورة مريم .. سمعه عدة مرات دون رد ثم أنهى قراءة اللآية الأخيرة همس صدق الله العظيم التفت على علي وقال : ماذا يريد ؟!

علي : لعله خير هل نجيبه ؟!
يحيى : يبدو أننا إلم نفعل سنصاب بالصمم ثم أن صراخه على هذا النحو يلفت نظر الروس إلينا يجب أن يصمت ها أنا ذاهب إليه

دخل يحيى إلى التجويف الكهفي ومعه شمعه كشفت عن وجه ميخائيل وكيف تهللت اساريره كاد أن يطير من الفرحة أخيرا أخيرا أتيت
يبدو أنك معتاد على الثرثرة يجب أن لا تصرخ على هذا النحو تعلم ذلك رد عليه يحيى بروسية جيدة
ميخائيل : أرجوك أيها المحترم أريد أن أقول لك شيئا مهما
أسمعك
أريد .. أريد ..

تكلم وإلا تركتك

أريد أن أكون منكم أريد أن أكون منكم وتأثر جدا لدرجة أن صوته حشرج فلم يكمل العبارة
ارتفع حاجبا يحيى من التعجب حتى أنه أحرق أصبعه بلهب الشمعة لثوان دون أن يحس :
ماذا تعني يا رجل ..
ميخائيل : أريد أن أفعل ما تفعلون وأغسل يدي كما تفعلون وأؤدي معكم هذه الحركات الجميلة عندما أراكم أشعر بالنور يتسلل إلى أعماق قلبي وأشعر أن وجوهكم تعكس صورة الصدق أنتم قوم طيبون أيها الجندي المحترم أرى الشرف والعزة على جبينكم أنتم تستحقون لقب مقاتلين لستم مثلنا أنتم لا تقتلون لأجل سفك الدماء لكنكم تحملون شرف الدفاع عن هذه الدماء .. أريد أن أكون أواريا لا روسي! عند هذه العبارة كانت دمعة قد نزلت على وجنتيه حاول أن يبعدها بسرعة كي لا يراها أحد ..
وعم الصمت المكان ..

يحيى بتأثر : يا أخي يجدر بك أن تقول أريد أن أكون مسلما لا أواريا ولا روسيا تكون عبدا لله ..
لعل الله يريد بك خيرا وربت على كتفه ..

قفز ميخائيل من الفرحة : إذن هل تقبلوني بينكم أريد أن أدخل المعركة الآن إن سمحت لي
إنتظر علينا أن نطبق بعض الأمور قبل ذلك وأخذ يعلمه الإغتسال وترديد الشهادتين ومن ثم الصلاة ..ونزلت السكينة بشكل عجيب على الكهف ..

كان الكثير من الجنود الروس يستعيدون أرواحهم التائهة حينما يخالطون المجاهدين وييتبدى لهم أنه يمكن أن تكون لأرواحهم فائدة أخيرا في هذه الحياة وأن الكون يمكن أن يكون جميلا باسما أنهم فقط استطاعوا استخراج تلك الحقيقة التي تستقر في أعماق كل منهم أن كل هذا الجمال لهو من صنع خالق حينما تنظر إلى صفحة السماء ذات فجر وترستم على مقلتيك كل تلك الألوان التي تبدأ في التنفس مع أشعة الشمس لابد أن تقول يارباه سبحانك وحينما تكون على أرض ساحرة الفتنة كأرض البلقان فلابد أن الخشوع سيستقر في كل قسماتك شئت أم أبيت!

في المعركة بدا أن كل شيء سينتهي قريبا ..

كانت فرقة روسية خاصة قد تمكنت من كشف موقع مراد عرفوا أخيرا أن كل القذائف النارية كانت من صنع هذا الشاب القوقازي عض قائد الفرقة على شفتيه : واحد فقط مقابلكم جميعا لابد أنكم تحتاجون إلى عام كامل لتغسلوا عار نفوسكم الجبانة !
لا بأس أيها المقاتل النبيل سأجعل نهايتك بنيرانك هذه .. بنفس الحشائش سنحرق شجرتك ونجز رقبتك!
كانت الفرقة تتسلل بهدوء نحو المنطقة حول شجرة مراد مستعينة بالفترة التي يزداد فيها الرصاص لدرجة تجعل مراد يختبئ رغما عنه أخذ ذلك وقتا طويلا ..

استخدموا نفس المادة الشديدة الإنفجار وطوقوها حول الشجرة كانت الريح باردة ومراد شعر أن الريح لها نبض يخفق وأنها توشوش له ابتسم وأخذ نفسا عميقا .. مع همسها كان يذكر دعوات أمه وآيات القرآن تنساب من شفتي أبيه أرعبه وجه أطل عليه فجأة من اللاشئ ! شيخ أحمد أخفتني !!
يا بني يجب أن نترك المكان فورا ...
ماذا يا شيخ أحمد لقد أسقطت قلبي
سنغير أماكننا الآن يا بني
أنت شيخ لكنك لست كهلا تكبرني بسنتين أو ثلاث لماذا تناديني بني ؟!
اسمعني لقد أتانا هذا الرجل الصالح إنه روسي من الله عليه فأصبح أخا لنا إننا صغار بالنسبة له فصفحته بيضاء
ماذا تقول يا شيخ أحمد لا أسمع شيئا من الإنفجارات ثم يجب أن تكون متيقظا لا وقت للثرثرة الآن ..
يا بني الروسي الذي آمن بالله يقول أن فرقة خاصة ستفجر المكان فينا بعد قليل لقد دخل بينهم على أنه منهم وقد أتاني ليحذرني تعلم أنني أتكلم الروسية بطلاقة لقد فهمت عليه أوصيته أن يكون معهم لآخر لحظة لكنه دورنا الآن يجب أن نترك المكان ..

لكن القائد مسعود قال ,,,

أقول لك المكان سيحرق اتبعني بسرعة وعند هذه الكلمة كانت النيران تشتعل وألسنتها تتراقص على وجه مراد والشيخ أحمد
قفز الإثنان وبدأ الرصاص ينهال عليهما قفزة الشيخ أحمد كانت كبيرة لدرجة جعلته يتدحرج حتى أسفل الوداي أما مراد فعلقت قدماه في إحدى الأغصان ويبدو أنه أصيب برصاصتين على الأقل
يجب أن أفجر كل الأفخاخ الباقية هكذا أوصاني القائد زحف على بطنه شعر أن كل الأناشيد الشيشانية القديمة تتردد في أذنيه كاد أن يغني هو نفسه بعضها يذكر كيف كان الرسول حاضرا فيها كلها ومعاني البطولة والفداء وحب الدين النيران من حوله لا تخيفه هو يعلم أنها برد وسلام عليه مادام الله راضي عنه واصل عمله كانت الحرارة تزداد وهو يزداد ارتجافا رغم الحرارة يبدو أنه تأثير الإعياء تمكن من صب مزيد من تلك المادة وقذف بكرات من تلك الحشائش على مناطق الأفخاخ كان الدم المتفجر من ساقه لا يتوقف وبدأت الأصوات تخفت تدريجيا ما عدا صوت الإنشاد الشيشاني وسمع كذلك آيات من سورة الزمر تتردد وشعر أنه سعيد جدا وأن كل شيء في الكون أصبح باسما ونطق الشهادتين ...
في صباح اليوم التالي كانت المعركة فد انتهت ..
شوهد مراد وهو ملقى قرب بقايا الشجرة المقطوعة وبقى منها قدرا شعار منحوت للغة الشيشانية القديمة يفسره الشيوخ على أنه قمر لقلب شاب شيشاني أحب وطنه ودينه بشدة ...
الفرقة الروسية تم أسر بعضها فقد دل عليهم الروسي الذي آمن والباقين قتلوا في المعركة كان عدد الشهداء كبيرا لكن النصر كان أكبر وجثث الروس أضعاف مضاعفة ..
اشتاقت الأرض القوقازية لدماء أبنائها فكانت سعيدة اليوم لتحتضن فوجا جديدا من أزاهير الشهادة .. ورواء المسك

بلل الشيخ أحمد لحيته وهو يبكي ويتعكز على رجل واحدة قرب قبر مراد كانت رجله مكسورة لكن قلبه مكسور أكثر على فراق صديقه ..
يا بني لقد فقدنا اليوم قمرا لن يعود البدر كما هو بعد أن فقدنا قلبك لكنك هناك يا فتى كما أردت
كانت رائحة المسك رائعة لدرجة أدخلت السعادة إلى قلوب الجميع ..
يا أبناء القوقاز هل تشمون هذا المسك يفوح من دماء هذا الفتى دمائه ما زالت متدفقة .. جسده مازال طريا عيناه تقول شيئا وابتسامته صافية يبدو كأنه يغفو وسيضحك معي بعد قليل كما اعتاد هل تشمونها هذه رائحة عرسه في جنان الله بإذن الله إنه سعيد لكن لماذا أبكي أنا إنني لشيخ خرف أليس كذلك يجب أن نفرح جميعنا أليس كذلك دعونا ننشد الأناشيد الشيشانية التي تفرح الشهداء ...
وظل نشيد الخلود يتردد في أذني مراد احتفالا بالنصر والشهادة.

ليست هناك تعليقات:

واجب القراءة قفزة عباس في الهواء ستكلف فلسطين والحقوق الفلسطينية باهضا!

Study
View more documents from Bahrainpath