بسم الله الرحمن الرحيم
أكثرنا لا يصلي، وإنما يقوم ويقعد، ويركع ويسجد، وإن العامل الذي يذهب ليقابل رئيس الشركة، والمعلم الذي يمضي ليدخل على وزير المعارف، وكل من يكون منا على موعد مع رئيس أو أمير أو ملك يستعد لهذه المقابلة بزيِّه وثيابه ويهتم بها بفكره وقلبه، أكثر مما يستعد للصلاة ويهتم بها.
وهذه الحقيقة لا نستطيع أن ننكرها (مع الأسف)، مع أن المصلي إنما يدخل على الله، ملك الملوك، ومن كل خير عنده، وكل أمر بيده، ومن إن أعطى لم يمنع عطائه أحد، وإن حرم لم يعط بعده أحد.
وإن كان من يدخل على الملك المطلق، لا يفكر في سؤال حاجته وزيراً أو عاملاً، بل يسأل الملك الذي يأمر الوزير والعامل، فكيف نقوم بين يدي الله، وعقولنا متعلقة بغيره، وأفكارنا مشتغلة بسواه، نرجو النفع من البشر، ونخاف منهم الضرر، ولا يخطر على بالنا أن نتوجه إلى الله الذي نقوم بين يديه، نطلب منه هذا الذي ينفعنا، ونسأله دفع ما يضرنا؟ ونحن نتلو بألسنتنا، ما لا تصغوا إليه قلوبنا، ولا تعيه عقولنا، فلا تكون صلاتنا إلا رياضة للأعضاء، وتحريكا للسان، مع أن هذه الرياضة كالجسد من الصلاة، والخشوع هو الروح، فكيف تصعد صلاتنا إلى الله وهي جسد بلا روح؟ وهل تطير جثة لا حياة فيها؟
وأنا لا أصف لكم الصلاة الكاملة، التي كانت قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويكون لها الأثر الدائم في سلوك صاحبها، وفي أخلاقه وطباعه، الصلاة التي يحس صاحبها القوة بالله فلا يخشى في الحق أحدا، ويستشعر الضعف أمام الله فلا يحاول التعدي على أحد. لا ولكن أصف لكم أدنى درجات الخشوع في الصلاة، وهي أن يفكر المصلي في معاني ما يتلوا، وأن يتدبر بقلبه ما يتحرك به لسانه.
فإذا سمع المؤذن يدعوه إلى هذه (المقابلة) استعد للوقوف أمام الله فطهر جسده وثوبه ومكانه، وذكر أن الله لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه لا ينظر إلى الصور وحدها، ولكن إلى النيات والسرائر، فلم يكتف بتطهير ظاهره من الأنجاس المادية، حتى يطهر قلبه من الأنجاس المعنوية: من الشرك والرياء والطمع والحسد، وهاتيك الأوضار كلها. ثم يستقبل القبلة، فيتصور الكعبة أمامه، لا يستقبلها على أنها صنم يعبد، أو على أنها تنفع أو تضر، بل لأنها هدف جامع، ينظم المسلمين في أرجاء الأرض، في دوائر تقترب وتبتعد، لا تمنعها الجبال ولا الصحارى ولا البحار، من أن تلتئم وتستدير حول هذا الهدف ثم تتراصَّ بنظام وإحكام، كجيش مستعد لبذل الروح والمال إرضاء لله وإعلاء لكلمة الله وإقرارا للعدل والخير والفضيلة في هذه الأرض.
ويحاول أن يحضر نفسه بواعث الخشوع، فيتصور أن قد انقضت هذه الحياة، وهي حتما إلى انقضاء، وأن قد جاء يوم الحساب، وهو قادم لا محالة، فيبصر الصراط أمامه، والجنة عن يمينه تدعوه بنعيمها المقيم، والنار عن شماله تلوح له بعذابها الدائم.
ثم يفكر في عظمة الله، فتهون حيالها الدنيا والآخرة، والجنة والنار لأنه أكبر منها، ومن كل ما يخطر على العقل البشري من كائنات، هو أوجدها من العدم بكلمة، وهو قادر على أن يذهب بها بكلمة، ويرفع يديه حيال أذنيه كأنه يطرد شواغل الدنيا عن ذهنه، ويقول من أعماق قلبه: (الله أكبر) . وبذلك يكون قد وقف أمام الله.
ولو تُرِك البشر لعقولهم، لما استطاعوا أن يحصوا الثناء على الله، فكان من نعم الله على المسلم أن عَلَّمه كيف يرفع التحية إلى ربه في مطلع صلاته، وكيف يثني عليه.
فهو يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك) ومعنى التسبيح التنزيه، تنزيهه تعالى عن كل ما يمر في فكرك من الصفات البشرية المادية (كل ما خطر على بالك، فالله بخلاف ذلك). أو يبدأ إن شاء بالتوجه إلى الله (وجهت وجهي).
لمن؟ لبشر أو لحجر؟ لا، بل (لله الذي فطر السماوات والأرض) وكل ما فيها من خلائق.
فإذا استوفى التحية يطلب حمايته أولاً من عدو البشر الألد، الذي يتربص به، يزين له الشر ويحبب إليه المعصية، ويفضل له هذه الدنيا الزائلة، ولذاتها الذاهبة، على الآخرة الدائمة، ونعيمها المقيم، ويسأله أن يعيذه منه، حين يقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
ثم يعلن الابتداء باسم ربه (بسم الله الرحمن الرحيم) لا باسم جلالة الملكة، كما يقول الإنكليز، ولا باسم الشعب، كما نقول نحن، ولا باسم صنم ولا وثن، ولا باسم رابطة أو حزبية أو رابطة منفعة أو مال، بل بما هو أعلى من ذلك كله وأعظم وأسمى. بما تُّمحي أمامه فروق اللون والجنس واللسان، وما تسكت أمامه أصوات الشهوة والسيطرة والجاه والغنى، وما يعود البشر أمامه عبيدا سامعين مطيعين، متجردين للفضائل والخيرات: باسم الله.
ثم يقرأ الفاتحة، ولكل كتاب بشري فاتحة: مقدمة تجمل مقاصده، وتوضح مطالبه، وهذه مقدمة الكتاب الإلهي الباقي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي نزَّله الله وتعهد بحفظه.
(الحمد لله) الحمد لله على نعمه التي لا تحصى: نعمة الحياة، نعمة الصحة، نعمة الأمن، نعمة السمع والبصر، نعمة الأهل والولد. إن الإنسان لا يعرف قيمة النعم إلا عند فقدها، إن سدَّ أنفك الزكام عرفت قيمة الشم، وإن أغلق عينك الرمد عرفت قيمة البصر، وإن داهمك الخوف عرفت قيمة الأمن، وإن لويت قدمك فلم تقدر أن تمشي عرفت قيمة الرجل، فتصوروا هذه النعم حين تقولون (الحمد لله).
(رب العالمين) هلا عرفت معنى الرب؟ ليس معناها الحاكم ولا الملك ولا الإله، الرب فيها معنى العناية والتربية، والحفظ والإنماء، الرب المربي، والعالمون جمع عالم، فعالم الأرض، وعالم النجوم، وعالم السماء، وعالم الجن، وعالم الشياطين، وعالم الملائكة، والعوالم كلها هو حافظها وموجدها ومربيها. فتصوروا هذه المعاني كلها، حينما تقرؤون هذه الكلمات الأربع (الحمد لله رب العالمين ).
(الرحمن الرحيم) وصف نفسه بالرحمة، وكررها لتكرر رحمته ولم يقل الجبار المنتقم، ولا القوي العزيز، ولكن(الرحمن الرحيم). أشعرنا رحمته، التي وسعت كل شيء، أترون رحمة الأم بولدها، الذي ترضعه على صدرها؟ إن الله أرحم بعباده منها لولدها، إن الأم إذا أساء إليها ولدها، أو خالفها، أو استعمل مالها في معصيتها، هجرته وحجزت المال عنه، والكافر يستعمل لسانه الذي أعطاه الله إياه في الكفر بالله، والله يرحمه ويرزقه ويحسن إليه، والفاجر يستعمل ماله الذي أعطاه الله إياه في معصية الله، والله يرحمه ويرزقه ويحسن إليه، وإن الله أنزل في الدنيا رحمة واحدة فيها يتراحم الناس، وتعطف الأم على ولدها، والأخ على أخته، والرجل على امرأته، وأبقى تسعا وتسعين ليوم القيامة، ورحمة الله هذه، من أولى النعم التي تستحق الحمد.
بعد أن يقول العبد في الصلاة (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم) ويستشعر رحمة الله يقول (مالك يوم الدين) فيستشعر عظمته، ليعلم أن الله رحيم فلا ييئس من رحمته، وأنه جبار فلا يأمن بطشه. ويوم الدين هو يوم القيامة، يوم يقف الناس جميعاً، من قتل في الحرب، ومن مات على فراشه، والذي أكله السبع، والذي غرق في البحر، والذي احترف وصار جسده فحما، يجمعهم الله جميعا، الأولين والآخرين، فيقف الملك بجنب الصعلوك، والغني بجانب الفقير، وتسقط الفوارق ولا يبقى من فرق إلا بالعمل الصالح، هناك ينادي المنادي: (لمن الملك اليوم)؟ للسلاطين؟ للجبارين؟ للأغنياء؟ لا. بل (لله الواحد القهار). ذلك هو رب العالمين، ومالك يوم الدين.
(إياك نعبد وإياك نستعين) أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك. والعبادة هي كل ما فيه إقرار بالربوبية للمعبود، فالصلاة عبادة، والسجود عبادة، والدعاء عبادة، والطواف بالقبور بنيَّة التعظيم (قياسا على طواف الكعبة عبادة) لغير الله والاستعانة هنا هي الاستعانة بما هو رواء الأسباب، فلا تمنع الاستعانة بالطبيب على وصف الدواء، ولا الاستعانة بالمحامي على حسن الدفاع، ولا الاستعانة بأرباب الصناعات، بل الاستعانة الممنوعة إلا بالله وحده، هي طلب ما وراء الأسباب، كمن يطلب من غير الله أن يشفي مريضه بلا علاج، أو يرجع فقيده بلا بحث، أو يطلق سجينه بلا شفاعة، أو يفرج كربه بغير سبب مادي.
بعد أن حمد الله على نعمه، وعرفت بأنه رب العالمين، وأنه أرحم الراحمين وأنه هو مالك يوم الدين، وبعد أن نزهته عن الشريك (الشرك الظاهر والشرك الخفي) وخصصته وحده بالعبادة، فإن الله يعلمك، كيف تطلب منه ما ينفعك، وقد أجمل لك الخير كله في كلمة واحدة: الصراط المستقيم.
(اهدنا الصراط المستقيم) أي دلنا على الطريق الموصل إلى كل خير في الدنيا وفي الآخرة.
(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) المغضوب عليهم عرفوا الحق، ولم يتبعوه، ومنهم اليهود، والضالون لم يعرفوه ولم يتبعوه، ومنهم النصارى. والذين أنعم الله عليهم عرفوه واتبعوه، وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.
(آمين) أي اللهم استجب لنا، وتقبل دعاءنا.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق